عرض مشاركة واحدة
قديم 12-15-2020, 06:41 PM   #4

افتراضي

- اليوم أتشرف وتتشرف البشرية ووتتشرف الأرض كلها بوالدة الابن
الذَّكَر الذي سيحمل اسم الملك العظيم كوش.. الابن العظيم الذي
قررت العائلة أن تسميه "زاهاك".
وهنا ضج الجمع بصيحات السعادة.. لكن اسم "زاهاك" لم يكن ذا معنى محبب
على أي حال.. لقد كان االسم يعني باللغة البابلية الثعبان اللاسع.. وعلى ذِكر
الثعابين اللاسعة كان لضحكات الشياطين من بين أنيابها فحيح سعيد. . فحيح
شيطاني سعيد.
* * *
نظر الراعي العجوز "إيشما" إلى تلك التحفة الأنثوية النائمة التي بدا أنها نزلت من
السماء إليه وحده.. تلك التحفة الصغيرة التي سمَّاها "سميراميس".. إنه مجرد
راعٍ فقير يجوع أكثر اليوم.. إن مكان هذه الجوهرة الصغيرة ليس بالتأكيد بين
تلك الجدران المتهالكة التي يعيش وسطها.. لابد أن الألهة تدخر لجمالها مكانًا
أكثر أناقة.. وهنا فاجأت دماغه العجوز فكرة عظيمة بشأن "سميراميس".
غدًا سيُقَام سوق "نينوى" العظيم.. والذي يتفق مع موسم الزواج الذي يُقَام كل
عام في بابل؛ حيث يجتمع الشبان والفتيات من كل أرجاء مملكة آشور العظيمة
فينتقي كل شاب عروسًا تناسبه.. ويشتري الكهول الفتيات الصغار لتربيتهن
حتى يبلغن سن الزواج فيتزوجوهن أو يقدموهن ألحد أبنائهم كزوجات. . نظر
إلى عيني "سميراميس" الجميلتين وعقد العزم أن يمضي غدًا إلى "نينوى".
ومضى "إيشما" العجوز حاملًا "سميراميس" الصغيرة على كتفه إلى "نينوى"..
ولو تحدثت الأناقة يومًا لقالت "نينوى".. كان "إيشما" قد لبس أفضل ما عنده
لكنه بدا متسوّلًا بالطبع وسط هذا السوق الذي يتنافس فيه كل ذي جمال
للحصول على كل ذات حسن.. كانت "سميراميس" تضحك ضحكتها الساحرة

التي خطفت أعين الكل وأثارت تساؤلاتهم عن هية ذلك المتسول الذي يحمل
لؤلؤة بين ذراعيه.
في نفس الوقت الذي كان "سيما" ناظر خيول الملك يمر في السوق.. كان يبحث
عن خيول جديدة يشتريها للملك.. وحانت منه نظرة التقطت فيها عيناه صورة
"سميراميس" الصغيرة.. نسي "سيما" الخيول ونسي الملك ونسي كل شيء
وتذكَّر شيئًا واحدًا.. تذكر أنه عقيم لا يلد.. نظر مرة أخرى إلى الصغيرة.. شعرٌ
بُنيّ كأنه الذهب.. كيف يصير البُنيّ ذهبًا؟ هذا لا يمكن شرحه إلا لو رأيت شعر
هذه الفتاة.. عينان تختصران كلمة أنثى إذا نظرتَ إليهما.. شفتان دقيقتان.. ترك
"سيما" كل شيء وتوجه إلى الراعي العجوز.. إلى "إيشما".
نظر "إيشما" إلى ملابسه الملكية في حذرٍ.. وابتسمت له الفتاة الصغيرة في
سحرٍ.. دقت له كل دقات الأبوة الباقية في قلبه.. وجرت لتلقي نفسها بين
ذراعيه.. التقطها ورفعها إلى السماء بسعادة.. وأخرج من جيبه كيسًا من
العملات الذهبية كان سيشتري به أغلى خيل في السوق.. نظر "إيشما" إلى
الكيس بلهفة وسعادة.. ثم إنه قبل يد "سيما".. ومضى في طريقه يغني:
"ولما يأتي المخلّص العظيم.. ستتحررين بالتأكيد "
* * *

كانت هناك منصة كبيرة دائرية ذات رخام أبيض وذهبي.. تحيط بها التماثيل
البابلية الموحية.. وفي منتصف المنصة نافورة مزخرفة تسحب الماء من النهر
وتضخه بشكلٍ خيالي لا يمكنك أن تصدق أنه كان موجودًا بهذه الدقة قبل أكثر
من أربعة آلاف عام.. غضَّ بصرك عن كل الفتيات العاريات الممددات أو الواقفات
هنا وهناك بجوار فتى في غاية الوسامة يجلس وسطهن بهدوء.. انظر إلى قوة
وفتوة ووسامة هذا الفتى.. انظر إلى سحر الطبيعة وسحر البناء البابلي من
حوله.. أنت في أحد القصور الملكية ببابل.. وهذا الوسيم هو "زاهاك" ابن الملك
كوش بعد مرور مئة سنة على والدته.. لا ترفع حاجبيك في استغراب.. فأعمار
البشر حينها كانت مابين خمسمئة وألف.
ها أنت تدير عينيك يمينًا ويسارًا لتملأهما بجمال هذا المنظر الساحر.. إن أجمل
منتجع في هاوي يبدو بشعًا مقارنة بهذا السحر.. لكن عينيك توقفتا فجأة على
شيء أفسد استمتاع عينيك؛ رجل عجوز كسيح.. أكثر أسنانه ليست في فمه..
تخرج من ذقنه شعرات معدودة مجعدة طويلة بشكل عجيب لم ترَه في أشد
الصور غباء.. يرتدي عباءة سوداء ممزقة من هنا وهناك.. وهاهو يقترب من
المنصة بخطوات عرجاء.
صعد الرجل العجوز إلى المنصة الرخامية.. قابلته نظرات امتعاض أنثوي من
العاريات.. ضيًق "زاهاك" عينيه الوسيمتين ونظر إليه بهدوء.. وبادره بلهجة
ساخرة واثقة:
- كيف دخلت هنا أيها المسخ الاجرب؟
نظر له العجوز بعينين فيهما بريق وحيوية مريبين.. وقال بصوتٍ هو أقرب لصوت
الحية:
- مررت بعرجتي هذه عبر مسوخ جُرب كثيرين يرتدون قلنسوات
مضحكة ويقفون كأن على كروشهم الطير.. يحرسون ما يلقبونه


بابن "كوش" العظيم.. فتملكني فضول لرؤية ابن "كوش" هذا.. وإذ
بي أجده مستلقيًا كأنه البغل وسط الإناث حتى صار واحدة منهن.. ال
سيف يُسن.. ولا رمح يُعد.
وضعت العاريات أياديهن على قلوبهن.. وتحفز الحرس حول "زاهاك"..
وتوجهت كل الأنظار إلى "زاهاك" الذي قام معتدلًا من مجلسه بسرعة كالمارد
واختطف أحد الرماح من أحد حُرَّاسه وألقاه بيد خبيرة حتى انغرست في قلب
العجوز الذي سقط كالحجر.. قال "زاهاك" بغضبٍ شديدٍ:
- ألقوا هذا الحثالة إلى األسود.. واعتذروا لها عن هذا اللحم العفن الذي
سنطعمها إياه اليوم.
حمل الحراس العجوز الذي بدا وكأنه مات من فوره كالجلمود وألقوا به إلى
حفرة قريبة واسعة مزيَّنة جدرانها برسومات الأسود الماشية التي تعتبر رمزًا
من رموز الحضارة البابلية.. وهي أيضًا مليئة بالأسود الحقيقية التي تزأر في
غضبٍ جائعٍ الأسود التي بدا وكأنها مئة أسد جائع مزقوا جثة العجوز قبل حتى أن
تحط على الأرض.. قال "زاهاك" بغضب:
- ألقوا حراس المنصة كلهم وراءه.. يبدو أن أبي "كوش" العظيم لايعرف كيف
يختار رجاله.
غادر "زاهاك" المنصة واتجه إلى داخل القصر البابلي العظيم.. ومشى فيه
بغضب هادر يُعنف كل من يجده أمامه من الحراس.. حتى وصل إلى غرفته
المزين بابها بالعديد من الألوان والزخارف.. فتح بابها وأغلقه بغضبٍ.. ثم إنه..
- لم أعد أذكر أن لك اسمًا ما يابن "كوش" العظيم.
نظر "زاهاك" إلى مصدر الصوت بعينين متسعتين.. كان رجلًا أكثر من نصف
أسنانه مفقودة.. ولديه عشر شعرات غريبات في ذقنه العجوز.. يرتدي عباءة
سوداء ممزقة أطرافها.. ولديه صوت أشبه ما يكون بصوت الحية.
* * *

هانحن مرة أخرى في بابل.. ولكن بعيدًا عن القصور الملكية.. في ضواحي
المدينة التي لم تكن مبانيها العادية أقل جمالًا من قصورها.. كان هناك رجل
بملابس تبدو ملكية يمتطي صهوة جواد أصيل ويحيط به الكثير من الرجال ذوو
الملابس المتشابهة والجياد المتشابهة.. كان هذا هو "أونس" مستشار الملك..
وقد أتى للمدينة بفوجٍ ملكي حتى يُبلغ أهلها بأوامر الملك التي لا تنتهي.. كان
ألاهالي محتشدين أمامه في قلقٍ وملل.. وكان "سيما" ناظر خيول الملك واحدًا
من المحيطين بالمستشار "أونس.
ومن بين جنبات صمت ألاهالي ومللهم شق الهواء صوت جواد آتٍ من بعيدٍ
بسرعة مجنونة.. التفتت إليه رؤوس كل الأهالي في دهشة وتبعتهم رؤوس
الوفد الملكي في غضب.. وتحولت كل دهشة إلى إعجاب وكل غضب إلى
دهشة.. لقد شقَّ جمود المشهد جواد أسود قوي يمتطيه ما بدا في الأفق وكأنه
فارس مغوار.. وليس هذا ما غيَّر تعابير القوم بهذا الشكل.. لقد تغيرت
تعابيرهم لأن القادم لم يكن فارسًا.. بل كانت "سميراميس".
- هل فاتني الشيء الكثير؟
قالتها بمرح وثقة لا يجتمعان إالا لديها.. دعك من الصمت الذي قابل عبارتها..
دعك من نظرات الاهالي إلى بعضهم والتي تحمل معانى أشبه بـ - انظروا إلى
هذا الفرس الذي يمتطي فرسا - .. دعك من كل هذا وانظر إلى الفوج الملكي..
وتحديدًا إلى "أونس" الذي سقط منه لباس الصرامة الذي كان يضعه على
وجهه.. سقط إلى أسفل قدمي جواده.. وسرحت عيناه في عالم لم يرَه من قبل..
تاهت عيناه في زحام من الجمال والرقة والأنوثة و...
- كيف تركضين بالفرس بهذا الجنون في ضواحي المدينة يا
"سميراميس"؟ وكيف تتخلفين عن حشد الملك؟
- لقد أمرتني أن أحاول ترويض الحصان "ليجيش" يا أبي.. وهاهو أمامك
كالمهر.

قالتها بنظرة أنثوية إلى المستشار "أونس" الذي كانت هذه النظرة كافية
لتقضي على كل ما تبقى من رزانته. . فقال بصوت خافت للحشد :
- فلينصرف كل منكم إلى متاعه.
تحرك الحشد مستديرين مهمهمين واستدارت "سميراميس" بجوادها لكن
صوت "سيما" الهادر أوقفها قائلًا:
- "شميرام" تعالي إلى هنا وقبلي يد المستشار واعتذري له.. فقد أفسد
قدومك حديثه.
نزلت "سميراميس" من على صهوة جوادها كفارسة حقيقية.. وتوجهت ناحية
"أونس" ناظرة إليه تلك النظرة الانثوية إياها.. والتي زلزلته هذه المرة فبدا وكأنه
هو الذي أخطأ ويريد الاعتذار على شيء ما.. مدت "سميراميس" يدها الجميلة
إليه ببطء حتى أمسكت بيده ببطء.. لكن يده جذبت يدها فجأة إليه ليُقبل هو
يدها ويقول في خفوتٍ. .
- - سيدة شميرام".. أن تقبلي أن تكوني لي زوجة هو الطريق الوحيد
الذي سيجعل قلبي يسامحك على ما فعلته به.
نظرت "سميراميس" إلى "سيما" الذي كان ينظر لها نظرة أبوية مبتسمة
مشجعة.. ثم نظرت إلى "أونس".. رجل قوي ذو منصب هو الأعلى في الدولة..
تنحى قلبها جانبا وتحدث عقلها بالموافقة.. وأصبحت "شميرام" في الليلة التالية
زوجة "أونس".. المستشار الأعلى للملك "كوش" العظيم.. ملك المملكة البابلية
كلها.
* * *





  رد مع اقتباس