عرض مشاركة واحدة
قديم 12-18-2020, 10:15 AM   #13

افتراضي

إن أروع شيء يمكنك أن تفعله في حياتك هو أن تبيع روحك لي.. أنا أملك كل
شيء.. أملك نفوس الناس.. وأملك عقولهم.. وقلوبهم.. أنا أفتح لك كل
الابواب.. كلها بلا استثناء.. أين تريد أن تصل؟ مال أم سلطة أم جاه أم شهرة..
أنا أعطي بلا حساب.. عطاءً حقيقيًّا سريعًا تلمسه بيدك.. أنا الذي خُلِقت لما خُلِق
الزمن.. وسأحيا إلى أن ينتهي الزمن.. إنهم يخفون اسمي عنك.. يوهمونك بأنني
سيء.. يريدون أن يحتفظوا لأنفسهم بالكعكة كلها.. لكني سأخبز لك
كعكتك الخاصة.. قلها معي ولا تخش شيئًا.. "بافوميت".. اسمي العظيم هو
"بافوميت".. لابد أنك تريد أن تراني.. لست مؤهّلًا بعد لهذا الأمر.. لا لنقص فيك
يا عزيزي حاشاك النقص.. وإنما ألن قلبك المرهَف لربما يتفتت من عظمة ما
يراه.
لكني سأريك مثلًا لي.. مثلًا يخضع لقوانين عالمك الذي لم أرَ عالمًا بمثل عظمته..
تعالَ معي ياعزيزي.. تعال ولا تخف.. تعال إلى هذه الكنيسة.. أمدد يدك وافتح
بابها ولا ترتجف.. أنا أنتظرك.. ادفع الباب بقوة وادخل بأيِّ قدميك تشاء.. دعك
من الرجال العرايا الذين يتزاوجون فيما بينهم هنا وهناك.. دعك من الدماء التي
على شفاههم وجلودهم.. دعك من كل هذا وتقدَّم.. إلى تلك الطاولة الكبيرة
هناك.. هل رأيتني الآن؟ ها أنا هناك في المنتصف.. ها أنا ذا "بافوميت".
سأحكي لك كل شيء.. من حقك أن تعرف كل شيء.. تعالَ معي إلي القدس..
ليس قدس اليوم.. بل قدسٌ منذ أكثر من ألف سنة.. قدسٌ لم تعد قدسًا.. بل
صارت أنهارًا حمراء.. دماء كانت تجري فيها وصلت إلى كعوب الجياد.. دماء
المسلمين.. دماء فرسانهم وأطفالهم ونسائهم وشيوخهم.. إن المسلمين
أشرار كما سأوضح لك فيما بعد.. لكن هذا ليس نقاشنا الآن.. لن نتحدث عن تلك
الأنهار الحمراء التي كانت تجري في شوارع القدس كأنما أضافت فراتًا جديدًا
إلى خريطة العالم.. فرات أحمر قانٍ.. الناظر إليها يظن أنما الأرض قد جرحت

ودمت. لن نتحدث عن تلك النساء التي كان فرسان الصليب يغتصبوهن بأيادٍ لم
تجف بعد من دمائهن.. ولا عن أولئك األطفال الصغار الذين كانت رؤوسهم
الصغيرة مسحوقة تحت حوافر الجياد.. ولا عن تلك القدور التي كان فرسان
الصليب يغلونها ويلقون فيها الرجال والنساء والأطفال.. لن أحدثك عن كل ذلك
وإنما سأحدثك عن قدس مابعد جفاف تلك الدماء من ألاراضي لتقطر من قلوب
ساكنيها المسلمين.. القدس المحتلة.. وأسمّيها محتلة لأنه بعد تلك الواقعة
احتلها الصليبيون لأول مرة من المسلمين وفي رأيي أنها ليست حقًّا لأي منهما..
إنما هي حقٌّ لنا نحن.. من نحن؟ هذا ما أنا قادم ألحدثك بشأنه.
حديثنا سيكون عنِّي أنا في البداية.. كنت بائع تحف قديمة عربي في القدس.. لا
تستنكر هذا الآن وتسألني عمَّا رأيته على الطاولة في تلك الكنيسة التي أدخلتك
إياها سابقًا.. هذا تساؤل سابق ألوانه.. عجوزًا كنت.. أكثر أسناني قد سقطت..
وفي لحيتي سبع شعيرات منثنيات.. وها أنا أجلس نصف عارٍ في أحد حمَّامات
القدس الشهيرة.. حمَّام علاء الدين.. وكلمة حمَّام في ذلك العصر كانت تعني
ذلك البناء اإلسلامي الفخم الضخم ذا الثلاث قاعات )بيوت( والذي يرتاده الناس
للاستحمام.. كنت في بيت التسخين.. والبخار يسخن جسدي العجوز.. لم تغب
عيناي عن ذلك الشاب المفتول العضلات الذي يجلس بالقرب منِّي في شرودٍ..
كنت أرتقبه منذ أيام.. وهاقد جاءت الفرصة لأحدثه على طبقٍ من ذهب.. اسم
هذا الشاب هو الاسم الذي بدأ به كل شيء.. اسمه "هيو بايون".. فارس من
فرسان الصليب ذي أصول يهودية.. وأريدك أن تتذكر أصوله اليهودية هذه
جيدًا.
- "هيو بايون".. هل علمت زوجتك "كاثرين" بالأمور الشنيعة التي
فعلتها في نساء العرب ؟
التفت "هيو" إليَّ وكأنما حية لسعته وقال :

- ما.. ماالذي تقوله ياهذا؟ من أنت.. وكيف عرفت اسم زوجتي؟
قلت له بصوت كفحيح الحية التي لسعته :
- "كاثرين كلير".. لقد علمت زوجتك كل شيء فعلته.. كل فتاة
اغتصبت جسدها قبل أن تمزقه إربًا بسيفك.. لقد علمت أنك مريضٌ يا
"بايون".. ويبدو أنني أسمعها آلان تحكي قصتك لقبيلتك المحافظة
كلها.
قال "هيو بعينين متسعتين مندهشتين:
- ما الذي.. بل كيف تقول.. من أنت أيها العجوز الخرف؟
نظرت إلى عينيه المتسعتين وقلت:
- أنا عملك القذر يا "بايون".. أنا وجهك الأسود الذي تخفيه وراء قناع
الفروسية والتديُّن.
استيقظ الفارس الكامن في "هيو" وأمسك برقبتي في عنفٍ وقال:
- من أنت أيها العربي الحقير.. وكيف تجرؤ على التفوّه بهذا الكلام
القذر.. وكيف تعرف كل هذا الهراء ؟
توقف كل ذي استرخاء عن استرخائه واعتدل مرتادو حمام علاء الدين لينظروا
للفارس "هيو بايون" وهو في أكثر لقطاته جنونًا.. حيث يصرخ ويمسك ويهدد
العمود الرخامي الذي يجلس بجانبه.. انتبه لهم "هيو" للحظات ثم أعاد النظر إليَّ
ليجد فراغًا يزينه عمود رخامي ذو نقوش إسلامية جميلة... أخذ "هيو" ينظر حوله
كالمجنون يبحث عنِّي.. ثم ينظر إلى دهشة الناس ويقول :
- ولكن.. ولكنه كان هنا.. ذلك العجوز.. الخرف.. ألم يرَه أحدكم ؟

عيد الزيتونة المسيحي.. أو مايسمونه هنا عيد الشعانين.. تجمَّع سكان القدس
من صليبيين حاملين لأغصان الزيتون وحجَّاج ومسلمين فضوليين متفرجين في
ساحة قبة الصخرة في الحرم القدسي.. ثم توجهوا في موكبٍ ضخم إلى وادي
الأسباط المجاور.. ليقابلوا هناك موكبًا ضخمًا من رجال الدين ورؤساء الأديرة
الذين يحمل أحدهم الصليب المقدس.. فيجتمع الموكبان ويعودان ليتجها إلى
ساحة قبة الصخرة.. كان "هيو بايون" وسط كل هذا.. ويبدو أنه كان يستحم
ذلك اليوم في حمَّام علاء الدين لأجل هذا العيد.
كان رجال الدين وفي مقدمتهم حامل الصليب المقدس يطوفون حول الساحة..
وفي هذا رمز لطوفان الصليب المقدس حول هيكل سليمان.. كنت هناك واقفًا
مع المتفرجين الفضوليين.. اقتربت من "هيو" في هدوء وقلت له :
- هؤلاء الحمقى لايعرفون أنهم يطوفون وتحت أقدامهم كنز من
ملكه ملك العالم أجمع.. ومن خسره خسر العالم أجمع.
نظر لي "هيو" بدهشة ثم تحولت دهشته إلى غضبٍ وقال :
- اسمع ياهذا.. لو بقيت أمامي لحظة أخرى سأخفيك من الوجود تمامًا
بقبضتي هذه وحدها.
- بل اسمع أنت يا "بايون".. ستأتيك رسالة اليوم بعد مغرب الشمس من
زوجتك في شامبين بفرنسا.. ستحكي لك فيها عن رؤى تراها وتقض
مضجعها كل ليلة.. وستصف لك رجلًا.. ولو لم يحدث ما أقوله لك
تعالَ إلى متجري في السوق واقتلني.. وإن حدث كما أقول فتعالَ أيضًا
إلى متجري وسأخبرك.
- بماذا ستخبرني أيها المأفون؟ ومالك ومال زوجتي أيها الحثالة؟

مرت بيني وبين "هيو" عدة أجساد كانت كافية لأتوارى عن ناظريه. وفي المساء
جاءت لـ "هيو" رسالة من زوجته تقول له فيها إنها ترى رؤيا مزعجة تأتيها كل
يوم.. ترى رجلًا عجوزًا بأسنان مكسورة يطوف بساحة قبة الصخرة المقدسة
وفي منتصف الساحة ترى "هيو" وهو يضاجع فتاة سمراء مقطوعة الرأس
وسيفه بجوار رأسها.
- هل أنت ساحر ياهذا؟
نظرت إليه من بين تحفي ألاثرية في متجري قائلًا:
- أنا تاجر تحف أثرية كما ترى ياسيدي.
- كيف عرفت اسم زوجتي أيها اللعين وكيف عرفت بأمر رؤياها ؟
- هل أزعجتك رؤياها؟ هل تريدها أن ترى الفتيات الأخريات ومافعلته
معهن؟
- كيف تعرف كل هذا؟ من أنت بالضبط؟
- "بافوميت"
- ماذا ؟
تقدمت بهدوءٍ ناحية أحد الرفوف وأمسكت بتحفة كبيرة تمثل مجسمًا للحرم
المقدس كاملًا.. وضعت المجسم على الطاولة الرئيسية وقلت له:
- أنا أقرأ عقلك ككتاب مفتوح يا "بايون".. أنت الان تفكر أن تنهي
أمورك في القدس وتسافر عائدًا إلى شامبين.. وتفكر ألا تكرر
المشاركة في أي حروبٍ قادمة لأن الإثارة التي حصلت عليها في
الحملة الصليبية أشبعتك.
- من أنت؟

- أنا "بافوميت".. "بافوميت" الذي سيحولك إلى أغنى رجل في أوروبا
كلها.. بل في العالم كله.
- ما الذي تريده مني ياهذا؟ لست من النوع الذي يصدق خرافات
المشعوذين؟
- بالطبع.. بدليل أنك ذهبت إلى "جوليان" الساحر في كلومونت.
هنا اتسعت عينا "هيو" في دهشة ورعبٍ.. كنت أخبره عن أمورٍ لا يدري بها
مخلوقٌ على وجه الارض سواه.. وعن أسرارٍ لم يحدِّث بها سوى نفسه التي بين
جنبيه.. وبدأت لهجته تتحول في الكلام معي من العدائي المندهش إلى المحاوِر
المنبهر.. وهذا هو ما أردت الوصول إليه؛ أن يثق بي.. إن الإنسان الذي يثق بك
يكون كالمضغة بين أسنانك تفعل به ماتشاء.. وقد مضغت "هيو" وشكَّلته حتى
صار كالكرة التي أقذفها أينما أريد.. وقد قذفته أول ما قذفته إلى شامبين
بفرنسا.. حيث سيفعل هناك كما أريد له أن يفعل هناك.
سافر "هيو بايون" إلى شامبين بفرنسا.. وهناك جمع ثمانية رجال.. بعضهم
إخوته وبعضهم أولاد عمومته.. وكلهم مثله ذوو أصول يهودية ألنهم من
نفس العائلة.. وتوجه بهم جميعًا عائدًا إلى القدس.. ودخل بهم إلى الملك
"بالدوين الثاني" ملك القدس الصليبي.. أقنع "هيو" الملك بأنه من الالزم الحتمي
أن يشكل تنظيمًا خاصًا من الفرسان لحماية الحجاج الصليبيين الذين يحجون إلى
الحرم المقدس ويتعرضون لعمليات قتل وقطع طريق ينفذها المسلمون
الحاقدون.. ورغم أن الملك "بالدوين" اقتنع إلا أن "هيو" كان كاذبًا كبيرًا..
فالمسلمون لم يكونوا يقتلون أحدًا بل القتلة هم قُطَّاع طرق المجرمين.. لكن
أداء "هيو" كان مذهلًا أمام الملك.. تمامًا كما نصحته أن يفعل.
بهذا تكون تنظيم الفرسان.. "فرسان الهيكل".. وسُموا بهذا الاسم لأن الملك
"بالدوين" قد أعطاهم مقرًّا خاصًا بهم في جناح من القصر الملكي في جبل





  رد مع اقتباس