عرض مشاركة واحدة
قديم 12-20-2020, 06:32 PM   #30

افتراضي

من عشرة أذرع تمسك بي في إحكام وترفع رأسي بطريقة تبدو معها رقبتي
جاهزة لأستقبال نصل السيف.. صرخت وصرخت.. سمعت كثيرًا من الكلمات
الهندية الغاضبة التي يبدو أنها آخر كلمات سأسمعها في حياتي الحافلة..
نظرت إلى السيف بخوف.. رفعه الرجل ذو اليدين القويتين والعينين المخيفتين..
وتأهب لينزل به على رأسي.. أغمضت عيني بقوة وصرخت صرخة طويلة.
زار أذني صوت يختلف عن نوعية الأصوات التي أسمعها حولي.. صوت أنثوي كان
بعيدًا ثم اقترب حتى صار قريبًا جدًا.. ذراعان أنثويتان رقيقتان أحاطتا بي في رقة..
أنفاس أنثوية برقة الزهر شعرت بها على وجهي.. فتحت عينيَّ ببطءٍ مندهش..
رأيتها.. وكأنما توقف وعيي عن الوعي بكل شيءٍ حولي.. وصارت كل صورة
حولها مموهة وصورتها وحدها في عيني.. رأيتها وهي تصرخ وتحيط بي
وترفع يدها في وجه السياف وتضع وجهها أمام وجهي ورقبتها أمام رقبتي..
عطر أنثوي.. شعر طويل كأنه قطعة من ليل.. وعينان.. عينان ورمشان وشفتان..
هل أنا في الجنة؟ يستحيل أن أكون لازلت في تلك القرية الهندية.. إنها تضع
يديها على وجهي في رقة وتنظر إلى عيني في قلق ثم تنظر لهم في غضب.
"بوكاهونتاس".. هذا هو اسمها.. فتاة شابة في الثامنة عشر.. فاتنة سمراء..
هي ابنة الملك الهندي الغاضب.. تدخلت لتحميني من قسوة أهلها.. وقد ذهل
القوم بفعلتها هذه وتسمر الملك في مكانه وتحول غضبه إلى دهشة.. وقال
لها كلامًا بلهجة متسائلة.. فردت عليه بصوتٍ ملائكي بكلمات تمنيت من
حلاوتها ألا تنتهي.. خفض السياف سيفه.. وتراخت عضلات الرجال الممسكين
بي.. وصمت الجميع.. وتكلمت "بوكاهونتاس".
مذكرة "بوكاهونتاس":

كنت جالسة بجوار أبي كالعادة.. حتى دخل علينا "أوبي- شانكا" ومعه الرجل
الوسيم ينظر مندهشًا إلى ما حوله.. كان عمري عشرة سنوات وقتها.. كانت
المرة الأولى التي أرى فيها شخصًا من عرق مختلف.. فكنت أنظر له في دهشة
حقيقية.. قام أبي من مجلسه وحيَّاه مبتسمًا بتحية البوهاتان.. لم يفهم الرجل
شيئًا بالطبع لكن كان هناك رجل من الكويكروز ترجم للوسيم التحية بلغته
الإنجليزية.. أومأ الوسيم برأسه محييا ومدَّ يده يصافح أبي.
كان أبي سياسيًّا رائعًا.. عاتبه في البداية على مافعله في بعض القرى طلبًا
للطعام.. وعرض عليه أن يعطيه البوهاتان أرضًا أفضل من األرض التي بنوا عليها
معسكراتهم.. أرض "كاباهوسيك".. فيها ماء عذب وماء مالح.. ومخرج يمكن
أن يضعوا فيه سفنهم.. وعرض عليه أن يكونوا قرية تابعة للبوهاتان وموالية
لهم.. وسيمدهم البوهاتان بالطعام ويساعدونهم في البناء ويزوجونهم أجمل
فتيات البوهاتان.
أقام عندنا الرجل الوسيم الذي عرفت أن اسمه "جون سميث" أربعة أيام فقط..
أكرمناه فيها أيما كرم.. وكنت أقدم له الطعام بنفسي وألعب معه وأمدّ يدي
لأشد شعره الذهبي كل حين.. علمني بعض الكلمات الإنجليزية وعلمته بعض
كلمات من لغتنا.. لغة "لأجونكو".. وافق "سميث" على التعاون معنا وعلى عرض
أبي موافقة كاملة بدون شروط.. وطلب منه أبي أن يساعده ضد الإسبان
المخرّبين الذين يهاجمون مملكة بوهاتان كل فترة.. ووافق "سميث" ووعد أبي
أن يكون هو والإنجليز تحت قيادته.
مذكرة "جون سميث":
بعد أن اعترضت "بوكاهونتاس" طريق السيّاف بهذا الشكل.. تبدلت معاملة
القوم لي إلى النقيض.. يبدو أنها محبوبة جدًّا بين قومها.. أصبح الجميع

يعاملونني بلطفٍ وقدَّموا لي الطعام والشراب.. إن طعامهم غريبٌ لكن مذاقه
رائع.. شهر كامل أمضيته مع الهنود الحمر في قريتهم العجيبة.. كنت أود لو
أخطف "بوكاهونتاس" الجميلة وأهرب بها من هذه الأرض إلى أرض ليس فيها
سواي أنا وهي.
اتفق معي الملك الذي أصبحت أسميه "بالاتين" نسبة إلى "بوهاتان" على أن نكون
موالين له وأن نوقف المناوشات المتكررة بيننا.. وقال إنه سيرسل لنا الطعام
بشكلٍ منتظم.. كان يجب أن أهادنه وأوافقه.. فهو لا يعلم نية الإنجليز بعد.. إن
نيتنا هي احتلال بلاده كاملة سواء رضي بهذا أم لم يرضَ.. هذه أرض راقية
تستحق شعبًا متحضّرًا راقيًا.. ليس شعبًا همجيًّا مثل شعبه.. إلا إذا رضوا أن
يرتقوا فسيعيشون معنا في سلام.
بهذا عدت إلى المعسكر وفوجئ الرجال بعودتي.. لأنني عدت ومعي هنود
كثيرون محملون بموائد الطعام.. أثناء وجودي في المعسكر كانت
"بوكاهونتاس" تأتي كل ثلاثة أيام أو أقل لنمضي اليوم معًا على نهر يورك..
لقد أحببت "بوكاهونتاس" وأحبتني.. المشكلة أن أبوها الملك لا يقبل بالخضوع
تحت لواء إنجلترا.. بل يريد أن تخضع إنجلترا تحت لوائه هو.. وكان هذا يعني
صراعًا قريبًا.. وقتلًا كثيرًا لأهل "بوكاهونتاس".. هذا صعب على نفسي لكن
مصلحة بلادي فوق شهوتي الشخصية.. هكذا تعلمت.. لكن القدر لم يمهلني
لأشهد الحرب مع الجنود.. فوسط كل الترتيبات والتجهيزات التي كنا نقوم بها..
انفجرت ذخيرة من الذخائر في وجهي بالخطأ.
مذكرة "بوكاهونتاس":
فجأة مات "جون سميث".. قالوا لنا إنه مات وتم نقل جثته إلى إنجلترا.. بدأ أبي
ينتظر أن يعرف القائد الجديد ليعقد معه نفس الاتفاق الذي عقده مع "جون

سميث".. لكن بعد موت "جون سميث" مباشرة بدأ الإنجليز في مهاجمتنا..
وتحولت المناوشات إلى حرب طاحنة مميتة قُتِل فيها الكثير جدًّا من أبناء
البوهاتان.. كانت الأسلحة التي يستخدمها الإنجليز فتّاكة تبدو أسلحة البوهاتان
بالنسبة لها دُمى أطفال.. وقد احتاج البوهاتان وقتًا طويلًا جدًّا ليطوروا طرقًا
لمقاومة هذه األسلحة.. ظلت الحرب مشتعلة ما يقرب من األربعة سنوات.. ذقنا
فيها طعم الجحيم الحقيقي.. كان الإنجليز قومًا شديدي القسوة يقتلون بالجملة
ويستخدمون أشد الأساليب حقارة وينقضون كل العهود.
بقي الطرفان يتصارعان حتى أتى ذلك اليوم الذي ذهبت فيه بأمرٍ من أبي إلى
قرية "باتاوميكس".. وهي قرية من القرى التي لم تكن موالية للملك.. كنت
ذاهبة هناك في مناسبة اجتماعية مهمة.. ولما وصلت هناك نصبوا لي فخًّا
وخدعوني وقبضوا عليَّ.. كان الباتاوميكس هم من نصب لي الفخ.. عرفت أنهم
موالون للإنجليز ضد أبي.. شعرت بغصة في حلقي.. إنهم يودون استخدامي
للضغط على أبي.. الموت أهون علي من أكون سببًا في هزيمة أمّتي في هذه
الحرب.
كنت محبوسة في سفينة من سفنهم الكبيرة في غرفة ضيقة.. وحالتي سيئة
جدًّا بسبب اهتزاز السفينة المستمر أثناء وقوفها في الماء.. أفرغ ما في جوفي
كل يوم وأدوخ وأفقد الوعي وهؤلاء لا يفهمون أني أود االنتقال بعيدا عن
السفينة ويظنون أن ما بي هو بسبب الاكتئاب والخوف.. خسئتم جميعًا.. ليست
"بوكاهونتاس" من النساء الالتي يخفن أو يضعفن بسبب الأسر.. الأمر فقط دوّار
البحر.
وفي ظلمة الليل.. بين هزة للسفينة وهزة.. انفتح باب غرفتي الضيقة.. ودخل
كيان لم أتبينه جيدًا.. لكنه كان رجلًا ضخمًا بالتأكيد.. وقف على الباب قليلًا
كالصنم.. كان يدخّن.. أعطاه الظلام والدخان المتصاعد منظرًا مُقبِضا.. تقدَّم





  رد مع اقتباس