عرض مشاركة واحدة
قديم 12-18-2020, 07:17 PM   #18

افتراضي

لكنني خرجت من المدينة مدحورًا مذمومًا.. لقد أجمع أهل المدينة كلهم على
رأي السقيفة.. وبايع الكل بلا أدنى تردد الخليفة "أبو بكر".. حتى "علي" نفسه
بايعه ببساطة.. هؤلاء يعرفون كلام رسولهم جيدًا.. فقد رتب أكثر من مرة
أصحابه حسب الفضل "أبو بكر" فـ "عمر" فـ "عثمان" ثم "علي".. ومزاعمي أن
هؤلاء الثلاثة قد سرقوا الخلافة من "علي" ثلاث مرات ضاعت في الهواء..
فكيف يسرقون الخلافة ولم يخرج أحدهم منها حتى بثوبٍ جديدٍ بل ماتوا جميعًا
مديونين.. قدموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
لكن هذا السم الذي حضرته ولو لم يكن قادرًا على التأثير في هؤالء فهو قادر
على التأثير في ضعاف أو حديثي الإسلام.. وبهذا توجهت إلى الشام.. وحاولت
نشر فكري هناك لكنني خرجت منها مدحورًا مرة أخرى.. فكان أمير الشام
"معاوية بن أبي سفيان" يدير الشام بطريقة يستحيل معها أن تشتعل أي فتنة..
فخرجت من الشام وتوجهت إلى العراق.. وهناك فقط وجدت ضالتي.
في البداية نشرت مطاعن عديدة في كل أمراء البلاد.. فإذا تقبَّلها الناس سيكون
سهلًا عليهم أن يتقبّلوا مطاعن في الخليفة "عثمان بن عفان".. وبالفعل تقبَّل
كثيرٌ من الناس كلامي ومنهم كبار قواد الجيوش مثل "الأشتر النخاعي".. تقبَّلوا
مطاعني في الأمراء وتقبَّلوا مطاعني في "عثمان".. وظللت أطعن وأطعن حتى
سار معي ثلاثة آلاف رجل ودخلنا المدينة وواجهنا الخليفة "عثمان" بمطاعننا
وطلبنا منه أن يخلع نفسه عن الخلافة ويولي "علي". . لكن حتى هذه كان الرسول
قد أخبره شخصيًّا بها.. فقد قال له إن هناك منافقين سيأتونك ويطلبونك أن تخلع
قميصًا قمصكه الله فلا تخلعه.. وبهذا رفض "عثمان" أن يخلع نفسه من
الخلافة.. وبهذا حاصرناه ومنعنا عنه الماء.. حتى قتلناه.
وبهذا بايع الناس "علي بن أبي طالب" خليفة.. لكن اختلف أكابر الصحابة؛ فريقٌ
رأى أن يقتص الخليفة "علي" من قتلة "عثمان" أولًا وإلالن يبايعوه.. على رأس
هؤلاء "عائشة" زوجة الرسول و"طلحة بن عبيد الله" و" الزبير بن العوام".. الفريق
الآخر وهو فريق الخليفة "علي" رأى أن يؤجَّل القصاص.. لسبب سياسي بحت هو
أن القتلة من أكابر قبائل العراق وشرق المملكة الإسلامية وهم حديثي الإسلام..
فلو تم القصاص الفوري منهم ستنشق نصف المملكة الإسلامية عن الخلافة..
وقد استخدمتُ رأي "علي" السياسي هذا شر استخدام.. فأشعت في معارضيه
فكرة أن "علي بن أبي طالب" كاره لـ "عثمان بن عفان" ولهذا هو يُقرّ قتلته على
ما فعلوه.. وإنما يتخذ حجته السياسية هذه ذريعة ليساعد القتلة على الهرب..
ويبدو أنني بدأت فعلًا في إشعال النار.
قرر "طلحة" و"الزبير" أن يسافروا إلى العراق للقصاص من القتلة بأنفسهم
ومعهم خمسة آلاف رجل.. لكنهم أخذوا معهم "عائشة" زوجة الرسول لترقيق
قلوب القوم هناك.. ولما وصلوا للعراق طالبوا القبائل بتسليم قتلة "عثمان"
للقصاص لكن القبائل رفضت رفضًا شديدًا كما توقع "علي".. وبدأت الحرب..
وقتل جيش "طلحة" من القبائل الكثير.. وقتل القليل من قتلة "عثمان".. أيضًا كما
توقع "علي".
هنا انطلق "علي" بنفسه إلى العراق لحل هذا النزاع وعاتب "طلحة" والزبير"
و"’عائشة" على عدم تصديقهم لنظرته السياسية التي توقعها.. فهدأوا جميعًا
وبايعوا "عليا" بالخلافة واتفقوا على رأيه.. كان يبدو أن "علي" نجح في إخماد النار
التي أشعلتها.. لكن هيهات.. ففي الليل بعد أن نام الجميع.. تسللت ورجال معي
إلى مخيمات رجال "طلحة" وقتلنا منهم نفرًا يسيرًا.. ثم ذهبنا لمخيمات رجال
"علي" وقتلنا منهم نفرًا يسيرًا.. ونادينا في كلا الطرفين بينما أغار علينا الطرف
الآخر الحاقد.. وهكذا قام الرجال والتقت سيوفهم.. ونزل "علي" ينادي الجميع
أن يوقفوا القتال.. ونزلت "عائشة"على جملها ونادت في الجميع أن يوقفوا القتال
حتى أصابت ناقتها سهام كثيرة لم يدرِ أحد من أين تأتي.. فأحاط "علي" بجمل
"عائشة" بجسده في مشهدٍ بطولي حقيقي ومهَّد لها الطريق لتخرج من
الساحة.. ثم أمر نساءً من آل بيته لمرافقتها إلى المدينة.. قُتِل "طلحة" بسهم

مجهول.. فلما رآه "علي" بكى.. وقُتِل "الزبير" بطعنة غادرة أثناء صالة الظهر..
وأتى من يُبشر "علي" بقتل "الزبير" فقال له "علي" أن يبشر قاتل "الزبير" أنه في
النار.. ودفنه "علي" بنفسه وقال :
- إني لأرجو أن أكون أنا و"طلحة" و"الزبير" و"عثمان" ممن قال الله فيهم
)ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين(
وبما أن العراق كانت مكانًا غير مستقر فقد فضَّل "علي" أن يحكم المسلمين من
الكوفة.. وبهذا كاد "علي بن أبي طالب" أن يطفىء النار مرة أخرى..
ولكن هيهات.. لازلت هنا.. لازال الأسود بن السوداء "بن سبأ" هنا.. كانت هناك
العديد من الثغرات قد تكونت الآن.. فـ "علي" أثناء تحقيق سياسته بتأليف قلوب
قبائل العراق اضطر لإبقاء من كان منهم قائدًا للجيش كما هو.. ومن هؤلاء
كان "الأشتر النخاعي" أحد رموز التمرد على "عثمان" وغيره الكثير.. وصرخت بين
الناس أن انظروا كيف ترك "علي بن أبي طالب" مدينة رسول الله وذهب ليقيم
الخالفة من الكوفة مهد قتلة "عثمان بن عفان".. انظروا كيف كان جيشه يقاتل
جيش "عائشة" و"طلحة" و"الزبير" ويقتل منه من يقتل.. ويرفض أن يقاتل من
قتلوا "عثمان بن عفان".. ألا يدل ذلك على حقده على "عثمان بن عفان"؟ ولكن
صرخاتي تلك لم تؤثر سوى في حديثي الإسلام.. فالمسلمون يعرفون جيدًا من
هو "علي بن أبي طالب".. ابن عم النبي.. وزوج ابنته "فاطمة".. ومستشار الثلاثة
خلفاء الذين كانوا قبله.. قال فيه النبي " إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وأبى
أن يجعل ذريتي إلا من صلب علي".. و"من كنت مولاه فعلي مولاه".. فلم تجد
صرخاتي صداها.
لكن ما ساعدني بشدة كان أن هناك بلدًا واحدًا فقط معارضًا بأكمله لموقف
"علي بن أبي طالب" السياسي منذ البداية ورافضًا أن يبايعه إلا بعد أن يقتص من
قتلة "عثمان بن عفان".. بلد واحد فقط لكنه شديد الأهمية.. الشام.. بأميره
"معاوية بن أبي سفيان".. ونفر من الصحابة الكبار أبرزهم "عمرو بن العاص"..

لما أتيت الشام قبل مقتل "عثمان" لم أتمكن من فعل شيء.. أما الآن ومع تبنّيهم
هذا الموقف المعارض.. صار إشعال النار عندهم أسهل بكثير.
فذهبت بصرخاتي إلى أنصار "علي بن أبي طالب" وقلت.. إن "معاوية بن أبي
سفيان" يرفض مبايعة "علي بن أبي طالب" لأن "علي" قتل خاله وقتل أخوه.. كما
أنه كبير قبيلة بني أمية التي منها و"عثمان بن عفان".. فهو ولي دم "عثمان"..
وهو يقدِّم ولاءه للدم على ولائه للخليفة.. لكن صرخاتي لم تجد لها صدى كبيرًا
في تلك الأيام.. فالناس كانت تعرف من هو "معاوية بن أبي سفيان".. تعرف أنه
من القلة الذين ائتمنهم النبي "محمد" على تدوين القرآن.. وعنه يحفظون أحاديث
كثيرة جدًا.. ودعا له "محمد" فقال "اللهم اجعله هاديًا مهديًا".. والمسلمون
يتعاملون مع دعوات النبي معاملة الدستور.. بل إن أخت معاوية هي زوجة النبي
"محمد".. ولذا يلقبونه بخال المؤمنين.. وهم يثقون به تمامًا لأنه ورغم أن "عمر
بن الخطاب" أثناء خلافته عزل الكثير من الولاة مثل "خالد بن الوليد" و"أبو موسى
الأشعري" و"سعد بن أبي وقاص" و"عمار بن ياسر" إلا أنه لم يعزل "معاوية بن
أبي سفيان" أبدا.. وذلك لشدة حنكته في الإمارة وعدله.
لكن طال إصرار "معاوية" على رفض مبايعة "علي".. ونصح الصحابة الخليفة
"علي" بأن يخرج ليعيد الشام إلى حُكمه.. فخروجها عن الخالفة يجعل غيرها
يستمرىء الخروج على الدولة.. وبهذا خرج "علي" بجيش قوامه مئة وعشرون
ألف رجل إلى الشام ليعيدها.. وجهز له "معاوية" جيشًا قوامه تسعون ألف رجل..
كنت في غاية السعادة.. فالصحابة.. أصحاب القلوب الذهبية على وشك التقاتل
مع بعضهم البعض.. وتقاتلهم هذا يعني سقوط دولتهم.. ويعني أن الثعبان
سيجد ضحية جديدة.
التحم الجيشان وسقط قتلى ما يقارب الأربيعن ألفًا.. لكن كان هناك شيء عجيب
في هؤلاء القوم.. توقفت قليلًا لمحاولة استيعابه.. هؤلاء يتقاتلون بالنهار..
وفي الليل يتزاورون.. القرآن يدوي في ذلك الجيش.. ويدوي في الجيش الآخر..

كل طرف مؤمن أنه يقاتل لأجل الدين.. الطرف الأول يقاتل لأجل تفعيل حد
القصاص لأن في تعطيله مخالفة لشريعة الله.. والطرف الثاني يقاتل لأجل
استقرار الدولة الإسلامية.. يتقاتلون ولا يكره طرف منهما الطرف الآخر..
بالعكس يعظمون بعضهم البعض.. وفي المعركة يظل الرجلان يتلاحمان بلا
قتل.. فكل القتل الذي حدث في المعركة كان بفعل أتباعي.. قتلة "عثمان" الذين
كانوا في جيش "علي" لكن لما كان صحابيان يتقابلان فإن سيفيهما يصطكان
ببعضهما بلا قتل وقلباهما سواء.. وقفت بين هؤلاء وهؤلاء.. ليس لمثل هؤلاء
وضعت سُمي.. لقد أشعلت ما ظننته نارًا في القلوب.. فأصبحت النار بردًا وسالمًا
عليهم كأنها لم تكن.. أنا أضيع وقتي هنا.. هؤلاء سيصطلحون بعد حين
ويعودون أشد قوة مما كانوا.
وبالفعل اصطلح الرجال.. وعملوا هدنة لسنة.. خلال هذه السنة زحفت على
ضعاف النفوس والإيمان.. فلست أقدر إلا عليهم.. جعلت نفرًا كثيرًا منهم
يعتبرون كل من شارك في المعركة بين الصحابة كافرًا.. وجعلتهم يحاولون
الانقلاب على الخليفة "علي".. الذي انشغل تمامًا بمحاربتهم والقضاء عليهم
حتى قتله أحدهم.. وهو"عبد الرحمن بن ملجم".. الذي ظنَّ بكل السم الزعاف
الذي أودعته في قلبه أنه قتل "عليا" وأنه سيدخل الجنة.. وقد قال الرسول إن قاتل
"علي" هو أشقى الآخِرين.. وقال أيضًا أن الطائفة التي ستقتل الخوارج هي أقرب
الطائفتين إلى الحق وهي هنا طائفة "علي بن أبي طالب".. أما الطائفة التي ستقتل
"عمار بن ياسر" أثناء الفتنة فهي الفئة الباغية وهي هنا طائفة "معاوية بن أبي
سفيان".. العجيب أن النبي "محمد" كان يقول أحاديثَ عن أحداث حدثت بحذافيرها
بعد موته.. هذه الأمة عجيبة.. حقًا لم يرَ التاريخ مثل هذه الأمة على الإطلاق.
تولى الخلافة بعد موت "علي بن أبي طالب" ابنه "الحسن".. وقد عمل عملًا بسيطًا
أصلح به كل شيء.. بعد ستة أشهر على خلافته ذهب إلى "معاوية" وتنازل له
عن الخلافة.. وبهذا اصطلح الكل ولم يعد في قلب أحد على أحد مأخذ.. هذا

الرجل غريب.. كان منذ البداية ينصح أباه "علي" بكل النصائح التي لو كان اتبعها
كانت المشكلة ستنتهي.. فنصحه ألا يخرج وراء "عائشة" إلى العراق.. وألا يخرج
لقتال "معاوية".. والآن تنازل عن الخلافة.. وقد قال عنه جده النبي إن الله سيصلح
به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين.. ومرة أخرى.. تحققت نبوءة النبي كما
قالها تمامًا.. وانتهت الفتنة تمامًا وخمدت النار.. وزالت السموم.. ونظرت إلى
نفسي.. لقد فشلت مع هؤلاء.. حقًّا لقد فشلت.. من أي شيء صُنعت قلوبهم
بالضبط؟.. من أي شيء صُنعت؟
تـمَّت
****





  رد مع اقتباس