عرض مشاركة واحدة
قديم 12-19-2020, 12:12 PM   #20

افتراضي

فارس من عِليين..
1000 بعد الميلاد – 1250 بعد الميلاد

لما دخلتُ جنة الخلد لأول مرة لم يكن على جسدي سوى ثوب من حرير أبيض..
يُمسك بي ملكان أبيضان شاهقا الطول.. حتى أفلتا يدي.. كان هذا يعني هلم
انطلق ياصاحب الروح المرضية.. تفقد بنفسك ما أعد لك ربك من أجلك.. نظرت
حولي بانبهار.. في أول لمحة رأيت نهرًا جاريًا.. كأنه نهر من لبن.. نظرت إلى
الناحية الأخرى.. نخيل باسقات في أحسن صورة لها تمرها منثور على الأرض
في إغراء حقيقي.. حقًّا لقد قرأت عن هذه الأمور.. إنها حقيقية.. هذا ليس
حلما.. أنا واع تمامًا لما أرى.. فقط أشعر أن دماغي في حالة خدر ماتع دائم..
لكنني واعٍ.. لرائحة رائعة تسللت إليً بلا استئذان.. نظرت حولي.. كأنها عبق الجو
نفسه.. الجو الذي أتنفسه.
"الجنة تنتظركم يا ناصري آل البيت.. يا أحباب عليّ .. الجنة هنالك لا يفصلكم
عنها سوى أن تدفعوا أبوابها"
شيء آخر تسلل إليَّ بال استئذان.. نوع من النغم المبهج.. لم أسمع في حياتي
عذوبة كهذه.. نظرَت عيني ناحية النغم.. كان هناك مايشبه المدخل المصنوع
من الأشجار.. ذلك النغم ينبعث من الداخل مع أصوات أخرى.. هناك أشخاص
بالداخل.. شعور غريب أن تكون في جنة الخلد وتكتشف مكانًا جديدًا فتتحرك
ناحيته لاستكشافه.. عالما أن ما بداخله من النعيم هو على مستوى كلمة جنة..
هذه الكلمات التي أقولها ال تصف ما أشعر به.. لكني أحاول أن أرسم المعنى
بكلماتي.. تقدمت من ذلك المدخل شاعرًا بالنغم العذب يسحبني من عنقي.
"نسبّح بحمد الأول.. ونقدّس لمُلك الآخِر.. إلهان قديمان عظيمان لا أول
لوجودهما ولا ثالث"
حقا كان ما بالداخل مُبهرًا.. كانت المرة الأولى التي أذوق فيها معنى كلمة
السعادة.. كانت روحي سعيدة.. منتشية.. تشعر بالمرح.. وقد زادت السعادة
والمرح أضعافًا مضاعفة لما دخلت إلى ذلك المكان.. غشيَت أذناي ألحان أصبح
صوتها واضحاً الآن.. ورأيت الكثير ممن أعرفهم.. إخوة العقيدة.. أراهم

يتكئون على أرائك وتتكىء بجوارهم فتيات جميلات هن أجمل مما يُسمَح
بوصفهن.. يلاعبونهن ويضحكن معهن.. كن يرتدين أثوابًا ذات ألوان فاتحة..
حمراء بعضها وبعضها بيضاء.. رأتني فتاتان وأنا أدخل إلى هذا النعيم فسارعتا
بالتقدم إليً وعليهما أجمل ابتسامة رأيتها على ثغر.. ومدتا يداهما إليَّ بأنوثة
لم أذقها يومًا من قبل.. وسحبتاني برقة لأنضم إلى الجمع السعيد.
"اقتلوا الخليفة حتى وإن قُتلتم.. فإن قتلتموه دخلتم الجنة.. وإن قُتلتم دخلتم الجنة
أيضًا"
أجلستاني على إحدى الأرائك.. ثم إنهما قبّلتا يدي برقة.. أرجوكما قولا لي إنني
لا أحلم.. فإن كنت لا أحلم أخبراني أنني لم أسكر.. وإن كنت لم أسكر ففسرا لي
لماذا أشعر أن دماغي منتشية.. لم أكن أعلم أن الجنة فيها نعيم حتى للدماغ..
والدماغ نعيمها الأنتشاء.. ذلك الأنتشاء العظيم الذي أذاقتاني إياه لأول مرة في
الدنيا شيخ الجبل.. الإمام الأعظم.. "الحسن الصباح".
وهنا رأيته يدخل إلى هذا الجمع الجميل بنفسه.. اإلمام األعظم بنفسه.. يالهيبة
هذا الرجل.. أذكر ذلك الشاب الذي أمره الإمام الأعظم أن يقف على سور قلعة
"ألاموت" ويرمي بنفسه.. فصعد الشاب فورًا ورمى بنفسه من فوق سور القلعة
إلى الهُوّة السحيقة التي تطل عليها فمات.. كان الإمام قد أمره بهذا ليُرِي أحد
الزائرين الصليبيين الذين زاروه في قلعته كيف أن أتباعه يُخلصون له ولو على
حساب حياتهم.. لابد أن هذا الشاب يمرح في أحد ربوع جنة الخلد الآن.. لم يفهم
ذلك الصليبي لماذا كنا مستعدين لقتل أنفسنا بروح طيبة.. ولو أنه رأى ما أراه
الآن لفهم.
قال لنا الإمام الحسن الأعظم :
- يا أنصار الله... إن كل هذا النعيم الذي تنعمون به هو أدنى أدنى درجات
النعيم التي وعدكم بها ربكم.. ودرجات عليين لا ينالها سوى

الشهداء وحدهم.. وإنني أتيتكم اليوم لأقدم لكم واحدة من الفُرَص
العظيمة لتنالوها.. الشهادة الشهادة يا مؤمنين.. من يريد الشهادة؟!
وقفنا جميعًا كلنا يريد أن يكون هو المختار.. لو كان هذا النعيم بهذه الروعة
فكيف بما هو أعلى منه.. لا تتحمل نفسي إلا أن تناله.. ولحُسن حظي.. اختارني
الإمام هذه المرة.
كانت واحدة من الفرص التي يهبها الإمام لمن يحب منا بين الفينة والأخرى.. أن
ننزل من الجنة إلى الحياة الدنيا لنُنهي شرًا من شرورها العظام.. فإما أن نقتل
أحد الخلفاء العباسيين الذين هم في الحقيقة أعداء الله ورسوله كما تعلَّمنا.. أو
نقتل أحد الصليبيين الذين هم أعداء الله ورسوله أيضًا.. أو ربما نقتل أحد العلماء
الذين يبثون أفكارًا مسمومة في أذهان الناس فهم أخطر على عقيدتهم من
الخلفاء.. لكن هذه المرة لم تكن المهمة مهمة قتل.. كانت مهمة بسيطة
جدًا.. كان عليَّ أن أسلِّم رسالة إلى "لملك "أموري" ملك القدس الصليبي.. كم
أنا محظوظ.. أنا أعشق إمامنا الذي أرسله لنا ربنا حتى يأخذ بأيادينا إلى طريق
الحق.. من حقنا أن يكون لنا إمام كما كان لكل قوم نبي في السابق.. من حقنا
أن يكون لنا إمام معصوم مكلف من قبل الله.. يأمرنا وينهانا ويشرّع لنا ويعلمنا
باسم الله.
كان الطريق طويلًا جدًّا في الواقع.. كنت أركض بفرسي العربية الأصيلة باتجاه
القدس وأمامي حوالي الشهر لأصل إليها.. والنجوم فوق رأسي تدلني على
الطريق.. وخواطر كثيرة تجيء على ذاكرتي وتروح.. خواطر تشعرني بالفخر..
تذكرت نشأتي في قلعة ألاموت العظيمة.. كيف كنت صغيرًا يتيمًا ضائعًا هزيلًا
فجاء من وسط ظلمة الليل والتقطني وأسكنني في قلعته.. بل أسكننا في
قلعته.. أنا والكثير جدًّا من الأطفال المشردين.. لقد قدَّم لنا إمامنا المأوى.. بل
قدَّم لنا ماهو أكثر من ذلك

لقد علَّمنا كل شيء منذ كنا أطفالًا صغارًا.. علَّمنا الفروسية والمبارزة وركوب
الخيل والقتال بالأيدي العارية والخناجر والرماح.. علَّمنا الرماية بالسهم والخنجر
والرمح.. علَّمنا الرجولة والتحمُّل والصبر وسرعة البديهة في القتال.. علَّمنا
الإخالص.. علَّمنا دين الشيعة.. شيعة "علي".. شيعة آل البيت.. علَّمنا أن نكون بلا
مشاعر فيما يتعلق بأعداء الدين الكفرة الفجرة عابدي أقدام النساء وفروجهن..
خلفاء بني العباس ومن يوالونهم.
لقد كان الإمام يُطعمنا ويسقينا أطيب مطعم ومشرب.. وأجمل ما كان يسقينا
إياه شراب عطر الرائحة.. شراب يجعلنا نرتفع بعقولنا فوق عقول البشر.. شراب
ينمّي ذكاءنا وإدراكنا وذاكرتنا.. تذكرت الشراب فمددت يدي في رحلي وأخرجته
فشربت منه حتى ارتوى دماغي.. كنت أشعر بالفخر.. لقد أصبحت مقاتلًا فذًّا قويًّا
مخلصًا؛ لقد جعلني الإمام أقوى شيء في الدنيا.. فأردت أن أكون أقوى شيء
في الآخرة.. وقد أوصلني الإمام إلى ذلك فدخلت الجنة.. وكان لدخولي فيها
قصة عظيمة تذكرتها الآن.. دعني أحكيها لك تزجية للوقت.
قبل حوالي ثلاث سنوات من الآن.. في قرية قُرب نهاوند.. كنت أتابع ركب
السلطان بعناية شديدة منذ أن انطلق من أصبهان.. كان في الركب وزيرٌ من
وزراء الدولة العباسية اسمه "نظام الملك".. سلجوقي من السلاجقة الذين سمح
لهم خلفاء بني العباس بتقلُّد مناصب حاكمة في البلاد.. كان "نظام الملك" هذا
هو هدفي.. لقد أعاق هذا الرجل تقدُّم دولتنا النزارية وعطَّل أهدافها السامية
في تحطيم الخلافة العباسية.. وفجأة توقف الموكب.. ورأيت هدفي ينزل من
على جواده.. ثم نزل الركب كلهم من على جيادهم.
تحلَّق الركب حول "نظام الملك" وكان يحدثهم في أمرٍ ما ويسمعونه باهتمام
شديد.. يبدو أن فرصتي التي طال انتظارها قد حانت أخيرًا.. لو لم أفعلها اآلن
سأنتظر وقتًا كبيرًا قبل أن أتمكن منه.. أخفيت فرسي وخلعت عباءتي التي كانت
تغطّي ملابسي ورأسي.. كانت ملابسي التي أرتديها تحت العباءة ملابس شحاذ..

ومسحت بالتراب على شعري وجعلته شعثًا.. ثم إنني تحسست خنجري المخفي
تحت ردائي واقتربت من الركب بخطوات شحاذ.
- لقد قُتِل هاهنا ياسادة، في هذه القرية نفر كثير من صحابة رسول
الله.. فطوبى لمن كان مسكنه هنا.. وطوبى لمن لحق بهم حيثما هم
في عليين.
هذا الوزير الثعبان.. ماذا يعرف عن عليين حتى يتحدث عنها.. وهؤلاء الحمقى
يستمعون له كما لو كان نبيًّا.. توجهت مباشرة إلى هذا الوزير الثعبان
واصطنعت الذلة والمسكنة وقلت له :
- ياسيدي.. يظهر على محياك الطيبة والخير.. أعطني مما تجود به
نفسك الطيبة.. أرجوك ياسيدي.
- لا تعطه شيئًا ياسيدي.. يبدو محتالًا بصحة جيدة.
- بل سأعطيه.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطوا السائل
وإن جاء على فرَس".. ورُوى عن عيسى بن مريم عليه السلام قوله "إن
للسائل لحقٍ وإن أتاك على فرس مطوَّق بالفضة"
وظلَّ يتحدث وينظر إليهم حتى أسكتته طعنة نجلاء من خنجري.. سكت على
إثرها ونظر لي نظرة مذهولة.. ثم إن بعض الركب انشغل باحتضار الوزير
وبعضهم أخرجوا سيوفهم لقطع رأسي.. لكن أوقفتهم كلمة من الوزير
قالها قبل أن يموت :
- لا تقتلوا قاتلي فإني قد سامحته.
لم أنتظر لحظة واحدة.. تحولت ذلتي ومسكنتي في برهة إلى التفافة وانطلاقة
سريعة بارعة، كنت واثقًا أنهم ليسوا بمُدرِكيها ولو حرصوا.. تذكرت هذه
الواقعة وتذكرت عودتي إلى قلعة ألاموت بعدها واحتفاء الإمام المعصوم
"الحسن الصباح" بي وبما حققته ببراعة.. ثم إنني نمت تلك الليلة فلم أستيقظ إلا

وملكان يأخذان بيدي ويُدخلاني إلى جنة الخُلدِ.. الآن فهمت مقصد الإمام الأعظم
لما كان يقول " فإن قتلتموه دخلتم الجنة.. وإن قُتلتم دخلتم الجنة أيضًا".
ظللت أجتر ذكرياتي حتى وصلت إلى هدفي.. القدس.. قصر الملك "أموري"
الصليبي ملك القدس أيامها.. دخلت على الملك الصليبي وسلمته رسالة الإمام
الأعظم.. كان فيها "إلى الملك العظيم أموري.. إذا أتتك رسالتي هذه فاعلم بأني
من الموالين لك.. وإني أعرض عليك أن نوحِّد القوى في مواجهة عدو مشترك
يقض مضجعنا أنا وأنت.. الدولة العباسية الغاشمة المغرورة.. وإن أتباعي
المخلصين على أتمّ استعداد أن يكونوا رهن إشارة قيادتكم الباسلة لفرسان
الهيكل.. على أن يتم إلغاء الضريبة السنوية التي فرضها فرسان الهيكل علينا
والتي مقدارها اثنا عشر ألفَ قطعة ذهبية فرضوها بعد أن قتل رجالي "كومتي
دي تريبولي".. على أن يكون هذا بداية للتعاون فيما بيننا للقضاء على العدو
المشترك.. والله ولي التوفيق".
وافق الملك "أموري" على التعاون.. يبدو أن الإمام لديه خطة رائعة من خططه
التي لن تفشل أبدًا.. ألن الله أوحى بها إليه.. لم يكن هذا يعنيني كثيرًا.. كنت
منشغلًا بفرحة قلبي بأن مهمتي قد تكللت بالنجاح.. ولما أعود إلى الإمام سأرى
جنة من جنات عليين التي طالما حلمت بالأرتقاء إليها.. ركبت على فرسي عائدًا
إلى قلعة ألاموت.. وذهني يفكر في النعيم.. والأنغام.. وأنهار اللبن التي تستلقي
على ضفافها الحور العين.. وفي الفـاكـ..
- أتاني نبأ بأنكم لا تُقهرون يا فرسان نزار.
التفت بحركة سريعة متحسسًا خنجري.. رأيت فارسًا يرتدي عباءة مميزة
تتوسطها علامة الصليب.. عباءة تغطي جسده ورأسه.. يمتطي حصانًا قويًّا عليه
عباءة الصليب نفسها.. أعرف هذا الزِّي جيدًا.. كان فارسًا من فرسان الصليب..
فرسان الهيكل.. تحفزت حواسي القتالية كلها ونظرت له بحذر.. قال لي بصوتٍ
غاضبٍ:





  رد مع اقتباس