عرض مشاركة واحدة
قديم 12-15-2020, 06:55 PM   #5

افتراضي

ورغم أنَّ عينيْ "زاهاك" الوسيم قد اتسعتا لثانية.. إلا أنهما غضبتا في الثانية
التالية واستعاد قلبه جأشه وتحفزت عضلات ساعديه وهجم على العجوز البشع
هجمة ثائرة.. لم يتحرك العجوز من مكانه قيد أنمله ولم تطرف عيناه طرفة..
بل كان ينظر بسخرية إلى هجمة "زاهاك" التي مدَّ فيها يده ليمسك بتالبيب
العجوز ويرديه حيث يرديه.. لكن هجمة "زاهاك" تلك لم تنته إلا بعظيم اتساع
في عينيه.. وبنظرة إلى العجوز غير مصدقٍ لما يراه.
لقد مرَّ من العجوز كما يمر من الهواء.. فالتفت بحدة إلى العجوز ليجده واقفًا
في موضعه ناظرًا بعينيه الساخرتين إليه نظرة هزت كيانه.. أي إنسانٍ هذا..
العجيب أن ردة فعل "زاهاك" لم تكن مرتعبة بقدر ما كانت متحيرة.. ثم حسم
أمره فجأة وتوجه بسرعة إلى المشعل الذي يضيء الغرفة بالنار.. وحمله بيدٍ
واحدة ثم ألقاه بكل عزمه على العجوز الواقف.. ورأى بأُمّ عينه المشعل يمر من
بين جسد العجوز ويسقط على الأرض.. وهنا تحولت نظرة العجوز إلى نظرة
مخيفة وسًع فيها عينيه بغضب ثم نظر إلى المشعل نظرة واحدة أطفأت
المشعل مكانه.
بدأ عقل "زاهاك" البابلي القديم يفكر غير عالِمٍ ماذا يصنع بالضبط.. لكن العجوز
كان هو من تحرك هذه المرة.. في أقل من طرفة عين كان عند المشعل يحمله..
وفي الطرفة الثانية حدث ما جعل "زاهاك" يتراجع تلقائيًّا.. لقد أصبح العجوز
عجوزين ثم ثالثة ثم عشرة.. ثم تضاعف عدد العجزة حتى أصبح بعضهم يطير
في الهواء.. وكلهم يحملون المشاعل.. ثم ألقوها كلهم برمية رجل واحد على
"زاهاك" الذي تراجع فتعثرت قدمه فوقع على ظهره.. واشتعلت النار في
الغرفة حول "زاهاك" الذي لم يدرِ كيف يهرب.. كان العجوز ينفذ إلى عقل
"زاهاك" ويقرأ ما يفكر فيه.. والعجيب أن كل ما كان يملأ عقل "زاهاك" هو
ثورة الغضب والإصرار على هزيمة هذا الكيان الذي لا يدري له تعريفًا.. وكان

هذا يُعجب العجوز.. وفجأة تحول أكثر من خمسين عجوزًا إلى عجوز واحد يتقدم
إلى "زاهاك" وسط النيران ويقول له بصوت كفحيح الثعابين :
- لا تزعج نفسك بالتفكير بعقلك القاصر يا ابن "كوش".. فال قبل لك
بي.
- رفع "زاهاك" ذراعه أمام عينه محاولا تخفيف وهج النيران عليها
وقال:
- من.. من أنت يا هذا؟
قال له العجوز ببطء حاد :
- أنا "لوسيفر".. أمير النور يوم خُلق النور.
وفجأة انطفأت النيران وكأنها كانت وهمًا قاسيًا.. فأكمل "لوسيفر" :
- أنت المختار يا ابن "كوش".. أنت من اختاره نوري وبصيرتي.. بي وحدي
ستكون أعظم أهل الأرض.. وبي وحدي ستتعلم سر الـ "ماجي".. وبي
وحدي ستملك الأرض بإنسها وجنها وكنوزها.
همَّ "زاهاك أن يتحدث لكن "لوسيفر" أكمل حديثه :
- ليس سواك يصلح ليكون جبار الأرض.. ليس سواك يصلح أن يقود
هؤلاء النعاج.. ليس لسواك أن يعلم سر الـ "ماجي".. فلو أردت أن
يحصل كيانك الفاني على كل تلك القوة التي لم أرِك منها سوى
مثقال ذرة.. ائتني عند جبل دنباوند.. واسأل الصِبية هناك عن
"لوسيفر".. وسيأتون بك إليً.
ثم تلاشى العجوز من أمامه كأنه لم يكن.. تاركًا "زاهاك" في صدمة.. صدمة
ستغير حياته كلها فيما سيأتي من الأيام.
* * *

جبل دنباوند.. في ظلمة من الليل كالحة.. وشاب وسيم حائر يمشي على سفح
الجبل المظلم باحثًا عن الصِبية.. وأي صِبية سيكونون في مكانٍ كهذا.. إنه يكاد
ألا يرى يديه.. وال يسمع إال همس األرض.. ومن آنٍ آلخر تتهيأ له ظالل شبه
بشرية تدهن صخور الجبل.. بدأت نفس "زاهاك" الملولة تراوده.. فصاح بأعلى
صوته:
- أيها العجوز.. ها أنا ذا في دنباوند.. أين تراك تكون ؟
ولم يسمع ردًّا.. سوى صدى متكرر أضاف إلى تلك الأجواء الساكنة لمسة
مقلقة.. ثم بدا له أن هناك شيئًا ما يتحرك بحذرٍ.. ثم لم يلبث أن شعر بأنه ليس
شيئًا واحدًا.. بل أشياء.. تتحرك نحوه بحذرٍ صانعة بأقدامها صوتا ما على األرض..
ضيَّق "زاهاك" عينيه الوسيمتين ليزيد من حدة ناظريه.. ثم رآهم.. لم يرَ أجسادًا
بل عيونًا.. عيون تلمع كعيون الذئاب.. كانوا في كل مكان.. أمامه.. وعن يمينه
وشماله.. عيون لا تبدو أنها أليفة.. والعجيب أن "زاهاك" لم يشعر بالخوف ولا
بالقلق.. بل إنه صاح فيهم بصوت قوي صياح المعاتب :
- أين هو "لوسيفر"؟ أين من يطلق على نفسه أمير النور ؟
وهنا بدت له أجسادهم الصغيرة.. كانوا حوالي مئة يحتشدون حواليه.. ينظرون
ناحيته بنظرة جامدة تشعر فيها بخاطر من الدهشة.. كانوا يبدون وكأنهم حشدٌ
من الأطفال الحانقين على شيءٍ ما.. ملبسهم أسود وشعورهم سوداء طويلة..
التفتوا جميعًا بلا كلمة ومشوا كلهم باتجاه الشمال.. وتبعهم "زاهاك"
متوجسًا.. حتى أوصلوه إلى ما يشبه الغار في سفح الجبل.. ثم تفرقوا إلى كتلتين
صانعين بينهم طريقًا.. نظر لهم "زاهاك" ثم مشى وسطهم إلى الغار حتى
دخله.. وكما وعده "لوسيفر".. كان بانتظاره.
لم يكن عجوزًا.. ولم يكن أعرجَ.. بل كان "لوسيفر".. ليس له وصف آخر سوى
أنه "لوسيفر".. على كرسي كبير كان يجلس.. يلفه الظلام.. رغم وجود مشعل


أو مشعلين يبعثان نورًا خافتًا للغاية.. وهنا دبَّ شيء من الرعب في قلب
"زاهاك".. فالكيان الجالس أمامه لم يكن إنسيذًا.. وإن كانت له الهيئة التشريحية
للإنس.. لم يتبين وجهه جيدًا ألن الظالم كان يخفيه.. ليست هذه يد بشر.. وليست
هذه أصابع بشر.. ولا أظافر بشر.. وما هذه األكتاف بأكتاف بشر.. ما هذا الشيء
بالضبط؟ هل هو الرب على عرشه؟ لم يستطع بعقليته البابلية القديمة أن يستنتج
أنه يقف على بُعد خطوة أو خطوتين من الشيطان.. "لوسيفر".. لم يكن يدرك أنه
يقف أمام "إبليس".
* * *
بدأت الأمور تتضح ببطء؛ الوجه الذي كان يلفه الظلام اقترب من مجال الرؤية
وبدأت تسقط عليه ظلال المشاعل المتراقصة.. تحفزت خاليا "زاهاك".. ثم تحول
هذا التحفز إلى الدهشة.. فذلك الكيان الذي يفترض أنه "لوسيفر" كان يملك
شعرًاطويلًا جدًّا يمس الأرض.. وهذا الشعر ينسدل على وجهه غزيرًا يخفي
ملامحه تمامًا؛ حتى لا تدري هل أنت أمامه أم خلفه.. قال "لوسيفر" بصوت هادر
كالصخر:
- لقد اخترتك يا "زاهاك" من بين رجال الأرض كلها.. فبرغم أنك
تستمرىء حياة الدعة إلاأن لديك قلبًا ميتًا لا يخاف.. قلب شجاع.. وروح
متمردة.
أجفل "زاهاك" قليلًا وشعر بعرق يُندي جبينه من هول الكيان الجالس أمامه ثم
قال بصوتٍ خافت :
- اخترتني من أجل ماذا؟
أجابه "لوسيفر" بغضبٍ لا يدري "زاهاك" له سببًا إلا أن يكون صوته الهادر يوحي
بالغضب:

- لتملك بني الإنسان.. لتكون أول بشريّ يتعلّم سر الـ "ماجي".. ولكن..
توقف "لوسيفر" للحظات ثم قال:
- يجب أن نضع قلبك الميت هذا طور االختبار.. فسر الـ "ماجي" العظيم
لو ناله الرجل الخطأ.. فإنه يموت من فوره.
أشعلت كلمة االختبار في نفس "زاهاك" شيئًا ما فقال:
- ماهو هذا الـ "ماجي" الذي لا تكف عن ترديده.. وماهو هذا الاختبـ..
قاطعه "لوسيفر" فجأة :
- أن تراني ..
لم يفهم "زاهاك" شيئًا؛ فهمَّ بالحديث إلا أن "لوسيفر" قال بصوته الهادر في
لهجة مخيفة:
- أن تراني ولا ترتعد فرائصك.. فإن كشفت لك عن وجهي وطرفت
عينك طرفة خوف واحدة سأقتلك على الفور.. وإن رأيتني ولم تجفل.
. فإن سر الـ "ماجي" من حقك وحدك.. وسيُطوى لك العالم وتخضع
لك نفوس البشر كلهم.
سكت "زاهاك" سكوتًا طويلًا ثم قال :
- فلتكشف عن وجهك إذن يا هذا.
وبسرعة مفاجئة انحسر الشعر عن وجه "لوسيفر" الذي اعتدل في مجلسه مقرِّبًا
وجهه الشيطاني من "زاهاك".. كان "زاهاك" في تلك اللحظة يشاهد أشد وجوه
الأرض بشاعة وإرعابًا.. وجه "إبليس".. زاد العرق على جبينه.. وشعر بأن ذرات
الهواء تهتز من حوله من شدة بشاعة ذلك الوجه.. خفق قلب "زاهاك" خفقة
سقط فيها إلى أسفل سافلين.. لكنه حافظ على ثبات عينيه.. وأخذ يفكر في
أشد الامور جمالًا وبهجة ليشغل ذهنه عن بشاعة ذلك الكيان.. ولكنه مع مرور
الثواني ازداد الخوف في قلبه من هول ما يرى.. لكنه استعاد رباطة جأشه
بشجاعة عجيبة وقال بصوت حاول أن يخرجه ثابتًا غير متهدّج:

- أي شيء لعين أنت بالضبط؟
تحدث "لوسيفر" فتضاعفت بشاعة وجهه فقال :
- أنا شيطان مريد.
كان ذلك اللقاء هو أول لقاء بين إنس وجن في تاريخ الارض.. وقد حدث في بابل
في أول حضارة بشرية بعد طوفان "نوح".. أصبح "زاهاك" يتردد على ذلك الغار
في كل ليلة.. وعلمه "لوسيفر" سر الـ "ماجي".. والـ "ماجي" بلغة أهل بابل تعني
السحر.. فكان "زاهاك" هو أول ساحر مشى على ظهر الأرض.. أما التاريخ
فلقّبه بلقب اشتهر جدًّا حتى ظنه الناس اسمه الحقيقي. اشتهر "زاهاك" في
التاريخ باسم "النمرود"؛ "الملك النمرود".
وبعد مرور بضعة أيام على حادثة اللقاء الشيطاني تلك.. نصب "زاهاك" فخًّا لأبوه
"كوش".. حفرة متوسطة العمق مثبت في قاعها أكثر من خمسين رُمحًا
متجاورًا.. حفرة مغطاة بأوراق الشجر.. كان هذا هو أول فخ يُنصب في التاريخ..
كان الفخ الذي قتل الملك "كوش" وحول جسده إلى مصفاة بشرية.. الفخ الذي
أوصل إلى العرش من بعده ملكًا كان هو األكثر دموية وجنونًا ليس فقط بين
ملوك بابل.. بل بين ملوك العالم كله.. ابنه "زاهاك".. "الملك النمرود".
أن تكون مًلكًا جبَّارًا فهذا مفهوم.. أما أن تكون مَلكًا جبَّارًا متسلطًا وساحرًا
عتيًّا فاجرًا.. فقد صنعت شرًّا مستطيرًا لا قِبَل لأهل الأرض به.. كان "النمرود"
هو كل ذلك.. كان أول وضع تاجًا على رأسه.. وفكرة التاج نفسها اقتبسها من
ملوك الجن.. وقد صنع لنفسه تاجًا ذهبيًّا عظيمًا.. وخاتمًا ذهبيا كبيرًا.
يذكر التاريخ للنمرود أنه قال لما وضع التاج على رأسه :
- نحن ملوك الدنيا.. المالكون لما فيها.
ولم يدرِ أحدٌ معنى كلمة "نحن" حتى هذه اللحظة. .
* * *





  رد مع اقتباس