عرض مشاركة واحدة
قديم 12-23-2020, 11:11 AM   #52

افتراضي

في هدوء ولسانه المشقوق يخرج من بين أنيابه مهتزًّا في نهم لشيء ما.. كان
يبدو أن الأفعى "سيربنت" قد وصل لمحطته األخيرة.. وأنه سينجزها بنجاح كما
أنجز كل المراحل التي سبقتها.
بعد وفاة "هرتزل" أصبح "ماستيم" يطير فوق رجل آخر.. خليفة "هرتزل" في
زعامة الصهيونية.. "حاييم وايزمان".. عالم كيميائي يهودي.. أوفده اللورد
"روتشيلد" ليزور فلسطين أثناء هجرة اليهود إليها.. فعل هذا الرجل أفاعيل
خبيثة أعجبت "ماستيم" جدًّا.. في البداية أسس شركة تطوير أراضي في يافا..
هدقها شراء الأراضي من الفلسطينيين بطريقة منظمة.. كانت أكبر صفقة
عقدها هي شراء أرضٍ واسعة جدًّا جدًّا كانت مملوكة لعائلة لبنانية مقيمة في
أوروبا.. وبدأ "وايزمان" يبني مستعمرات يهودية على الأراضي التي نجح في
شرائها.. ثم أنشأ جماعة مسلّحة تدعي حرس الهاشومير.. يهود مسلحين لهم
هيئة غريبة نوعًا ما.. يرتدون الغترة البيضاء العربية على رؤوسهم.. وعلى
صدورهم حزامان سوداوان متقاطعان.. كان هؤلاء الحرس يحرسون
المستعمرات اليهودية.. وبدأ "وايزمان" في إخراج مظاهرات في فلسطين
لالعتراف باللغة العبرية.. وبينما "ماستيم" يطير في شوارع فلسطين.. إذ به يرى
جريدة مفتوحة ملقاة على جانب الطريق.. نظر إليها.. كان اسمها الكرامل..
وكان المانشيت الرئيسي في الصفحة تحذير لجميع العرب من قيام الدولة
اليهودية.. لأنها ستكون خنجرًا سامًا في خاصرة العرب.. ابتسم "ماستيم"
ابتسامة باهتة ثم غادر المكان طائرًا إلى مكان آخر.
فجأة اهتزت أجواء العالم أجمع.. الحرب العالمية الأولى.. تحالفت بريطانيا
وفرنسا وروسيا وإيطاليا ضد دولة واحدة هي ألمانيا.. لم تكن الدولة العثمانية
لها أي علاقة بتلك الحرب الأوروبية من قريب أو من بعيد لكن جماعة الاتحاد
والترقي أقنعوا الخليفة الصوري أن يدخل في الحرب إلى جانب ألمانيا.. وبالفعل
هذا ما حدث.. واشتد اهتزازالأجواء واشتد تطاير عباءة "ماستيم" وهو ينظر إلى

خسائر الدولة العثمانية المتتالية في تلك الحرب.. سقطت من بين أيدي المسلمين
دول كثيرة مثل البلقان وصربيا وبلغاريا واليونان والجبل الأسود والقوقاز.. ولم
تعد أي دولة عربية موالية للدولة العثمانية حقيقة وإنما صرخت بين العرب أصوات
تنادي بالاستقلال عن ذلك الكيان التركي المغرور الضعيف.. لم تكن الدولة
العثمانية بخير.. لم تكن بخير أبدًا.
كان حقًّا على "ماستيم" أن يقهقه ساخرًا وهو يشاهد أخيرًا قيام ما أُطلِق عليه
لقب الثورة العربية الكبرى.. لم تنطلق في أي وقت.. بل اشتعلت في خضم
انشغال الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى.. كان "ماستيم" متحمسًا جدًا..
طار إلى قلب الحدث مباشرة.. كان ملك الحجاز وشريف مكة الذي يدعى
"الشريف حسين" يراسل السفير البريطاني في مصر والذي يدعى "مكماهون"..
كان البريطاني يريد من العرب أن يدخلوا في الحرب العالمية الأولى مع بريطانيا
ضد الدولة العثمانية.. على وعدٍ من بريطانيا أن تعترف بدولة عربية كبيرة تضم
الجزيرة العربية كاملة والشام والعراق.. ويكون "الشريف حسين" هو الخليفة
الأعظم لهذه الدولة.. شرط ألا تضم تلك الدولة لبنان ولا تضم فلسطين.. ووافق
الشريف "حسين" واشتعلت النار.
وبينما كانت الدولة العثمانية تقاتل الروس واإلنجليز والفرنسيين والإيطاليين من
جميع الجهات.. إذ أتاها خنجر طعنها في ظهرها طعنة نجلاء.. خنجر عربي
مكتوب على نصله "الشريف حسين".. وصفق "ماستيم" بيديه المخيفتين لهذه
الطعنة الرائعة.
ترك "ماستيم" أجواء الثورة العربية الكبرى إلى أجواء أخرى.. اجتماع سري بين
إنجلترا وفرنسا.. اتفاقية ذات اسم شهير "سايكس بيكو".. يرأسها من الجانب
الإنجليزي "سايكس" مندوب بريطانيا لشؤون الشرق الأدني ومن الجانب الفرنسي
"بيكو" قنصل فرنسا السابق في بيروت.. اتفقا على أن تتوزع الكعكة العثمانية
عليهما.. أعني تتوزع الدول العربية عليهما بعد سقوط الدولة العثمانية.. فتأخذ

بريطانيا العراق والأردن.. وتأخذ فرنسا سوريا ولبنان أما فلسطين فتبقى تحت
سيطرة مشتركة للحلفاء.. ووبهذا كانت بريطانيا وفرنسا يريدان أن يأكلا قطع
الكعكة العثمانية.. رغم أنهما وعدا أن يُعطيا تلك القطع "للشريف حسين".. لكن
"ماستيم" كان يتساءل عن حظ اليهود في تلك الكعكة اللذيذة.. كان يتساءل
عن فلسطين.
فجأة فتح "الشريف حسين" جريدة الصباح ليجد أخبار تلك الأتفاقية السرية بين
بريطانيا وفرنسا.. رغم أنها سرية إلا أن الروس سرّبوا أخبارها إلى الجرائد..
وضجّ ملك الحجاز وأرغى وأزبد.. لكن حديثًا واحدًا من البريطانيين طمأنه.. قالوا
له ألا يصدق كلام الجرائد لأنه كلام جرائد.. ولم تحدث أي اتفاقيات ونحن على
وعدنا الاول واتفاقيتنا.. فاطمأن لذلك واستراح ونام يحلم بأن يكون ملك العرب.
كان "ماستيم" يطير مطمئنًا على أحوال اليهود في فلسطين.. كانوا لا يزالون
يشترون الأراضي ويبنون المستعمرات.. أخيرًا أيها اليهود بدأتم تمتلكون جزءًا
من فلسطين.. بعد أن شردكم الزمان وأذلّكم أهل المكان.. سمع "ماستيم"
أصداء حفل يقام في بريطانيا.. حفل عظيم.. طار في ثوانٍ إلى الحفل.. كان
اليهود يحتفلون.. بماذا تراهم يحتفلون.. إنه يرى أكبر حكماء صهيون هنا..
"حاييم وايزمان" و"سايكس" واللورد "روتشيلد" وغيرهم الكثير.. كانوا يحتفلون
بحدثٍ جلل.. فقبل أيام أصدرت بريطانيا وعدًا.. وعدًا لليهود بأن تقيم لهم دولة
مستقلة في فلسطين.. وعدًا يدعى "بلفور".. والتقت كؤوس الخمر وأكف
اليهود وابتساماتهم.. وظللت عليهم عباءة "ماستيم" المتطايرة وقناعه الذي
تحول في تلك اللحظة إلى مزيج عجيب من السعادة والإرعاب.
لم يكن وعدًا رسميا.. إنما كان رسالة من وزير الخارجية البريطاني "بلفور" إلى
اللورد "روتشيلد".. رسالة كان "ماستيم" يتوق شوقًا لقراءة نصّها.. فطار إلى
حيث الرسالة الرسمية وفتحها يقرأها بتركيز.. كانت كالتالي..
وزارة الخارجية





  رد مع اقتباس